تقرير الدكتور ادريس الخضراوي عن الجامعة الشتوية في موضوع مونتين وترجماته
وككلّ الفعاليات العلمية المتخصصة التي تطمح إلى تسليط الضوء الكافي على جوانب مختلفة من الموضوع المُفكّر فيه، وإثارة أكبر قدر من الأسئلة بخصوصه، سعت الجامعة الشتوية إلى تعميق البحث في ترجمة مونتين إلى العربية من منظورات متقاطعة ومنفتحة على تخصصات مختلفة، وتبئير النظر على سياقات تحقق الترجمة واستقبالها عربيا، في مسعى لتطارح قضاياها ومشاكلها ومنجزاتها، سواء على المستويين المحلي والعالمي أو على مستوى علاقتها بالثقافة العربية على صعيد التمثّل والاستيعاب. ونعتقد أن مرور ما يزيد عن خمسة قرون على الفترة التي عاش فيها المؤلف، والظروف التي أحاطت بظهور مؤلّفه باللغة الفرنسية، وهي لغة منبوذة من الطبقة العالمة السائدة في تلك المرحلة، كل ذلك يشكّل فرصة ملائمة للتفكير، هنا والآن، في ترجمة مونتين إلى العربية، والظلال التي يمكن لهذا العمل أن يلقي بها على حقول معرفية واسعة، بما في ذلك حقل الكتابة، وخاصّة كتابة الذات التي برع فيها مونتين بـأسلوبه المقالي، فضلا عن المساءلة النقدية القمينة بفسح المجال أمام إمكانيات تطوير الترجمة وتخصيبها، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالمؤلفات الكلاسيكية التي هي في حاجة إلى إعادة الترجمة حتى في اللغة التي كتبت بها كما هي الحال بالنسبة للطبعة الفرنسية القديمة التي تستعصي على الجمهور الواسع من القرّاء.
شكّلت محاور هذه الفعالية التي دارت أعمالها في كلية اللغة العربية بمراكش فرصة للبحث والتفكير والتأمّل في ترجمة مونتين إلى العربية |
ونعتقد أن الترجمات المتعددة التي حظي بها هذا النص، في الإنكليزية والألمانية والإسبانية واليابانية، ومستويات التفاعل التي تمتع بها في ثقافات مختلفة بحكم دور الترجمة في زيادة حجم الرأسمال الرمزي كما أظهرت ذلك الباحثة الفرنسية باسكال كازانوفا في كتابها "اللغة العالمية" (2015)، ومدى إسهام ذلك كلّه سواء في إغناء كتاب "المقالات" وجعله ينفتح على حياة لاحقة، بحسب مفهوم فالتر بنيامين للترجمة، أو إفقاره وإرغامه على التكيّف مع سياقات مغايرة، نعتقد أن ذلك كلّه يعطي لهذه الندوة النقدية طابع الحدث الثقافي، سيما وأن المتدخلين فيها ينطلقون من مادّة واسعة من النقاشات التي أحاطت بتلقي هذا الكتاب.
لا شكّ في أن الباحثين المشاركين في هذه الجامعة ممن يشتغلون بالترجمة أو الفلسفة أو الشعر أو الفكر الديني أو بحقول أخرى كالتاريخ واللغات، يفكّرون انطلاقًا من موضوع هذه الجامعة ومحاورها في أسئلة الفلسفة والترجمة، والعلاقات والروابط الوثيقة التي تشدهما والإخصاب المتبادل بينهما، فضلًا عن التحولات التي طاولت مفهوم الترجمة ذاتها من منذ الفترة التي كتب فيها مونتين وصولًا إلى عصرنا الحالي، وهذا ما جَعلَ الأوراق المقدمة خلال الأيام الثلاثة، تتميز بتنوع طروحاتها وتعدد المداخل النظرية والنقدية التي نبهت إليها في مسعى للّإحاطة بترجمة مونتين إلى العربية، بما في ذلك الأسئلة المتعلّقة باختيار مونتين كتابة "المقالات" باللغة الفرنسية بدل اللاتينية التي كانت هي لغة العلم والتعلم في المرحلة التي عاش فيها، والآثار المترتبة على هذا الاختيار في ما يتعلق بتلقي المقالات في السياق الفرنسي، وما إذا كان الكتاب يتطلب التشذيب اللغوي من أجل بناء علائق جديدة مع القارئ المعاصر الذي هو في حاجة ماسة إلى الاتصال مع فكر لا يزال يتمتع بالراهنية رغم مرور أزيد من خمسة قرون على تبلوره.
ومن بين الباحثين المتدخلين في المؤتمر، أدونيس، بدّي المرابطي، سناء السميج، عبد الحق الزموري، عبد اللطيف عادل، ألان لوكرو، لوك بربيليسكو، علي مخلوف، أندري فريش، فريد الزاهي، جلال الدين سعيد، بلاندين برونا، كريستوف بغدين، دومنيك برنشر، إريك ماكفيل، فؤاد بن أحمد، جيورج هوفمان، جيوفاني دوتولي، لحسن خمسي، لرس إنجل، لوك بربولسكو، محمد أمسناو، مقداد عرفة، بتريك وتلين، فليب ديزو، رضوان لعوينات، ريشارد هلمان، ثيموتي رايس.
توقفت الأوراق المقدمة خلال اليوم الأول عند العديد من القضايا ذات الصّلة بالترجمة والفلسفة وترجمة الشعر ونقد الترجمة. وإذا كانت بعض الأوراق، قد ركزت على التجارب الخاصّة في حقل الترجمة، واستعادة محطّات من المسار السيرذاتي للمترجم من خلال الإشارة إلى الأعمال أو إلى الاختيارات المجراة في النشاط الترجمي، أو الحلول التي تمّ إقرارها في ترجمة الشعر والفلسفة أو الفكر، فإن أوراقًا أخرى نحت منحى مغايرًا، نقديًا، تارة، بحيث يتوخّى استجواب الترجمات العربية لمونتين، ويضيء على إشكاليات وقضايا تثيرها، أو تحليليًا، تارة أخرى، يتقصّى قضايا مختلفة وراهنة من قبيل مكانة مونتين في التلقي العربي، وترجمة مونتين إلى الإنكليزية، ووضع الترجمة في عالم مونتين.
وخلال اليوم الثاني اهتمت جلسات الجامعة الشتوية بترجمة مونتين: اللغات العالمة واللغات العامية، وبقراءة المقالات وتلقيها، وقد شكلت جلسات هذا اليوم مناسبة لدرسِ جوانب أخرى تحيط بعمل مونتين بما في ذلك لاتينيته واختياره العامية، والترجمة والفكر، ومونتين بوصفه مترجما.
ولم تخل الأوراق المقدمة في اليوم الثالث والتي طرحت أسئلة مهمة، من الأفكار والانشغالات التي طبعت الأوراق السابقة، سواء على مستوى القضايا النظرية والنقدية المتعلقة بالترجمة، أو على مستوى ترجمة كتاب "المقالات" بصورة خاصّة، وأشكال وضروب التلقي التي طاولته في اللغات الأوروبية أو في العربية.
ويمكن القول إن الأعمال المقدّمة على مدى الأيام الثلاثة، قد أبانت عن اجتهادات نظرية وتطبيقية مهمة، ومكّنت من الاقتراب من كتاب "المقالات" الذي يعدّ من الأعمال الخالدة في التراث الأدبي الفرنسي والإنساني، ومن فهم القيمة التي يكتسيها حضورهذا الكتاب في العربية، والفائدة المتوخاة منه في تجديد علاقة القارئ العربي بهذه النصوص الكلاسيكية، مثل نص "المقالات" الذي ألهم العديد من الكتاب المعاصرين الذين كتبوا عن ذواتهم وفي طليعتهم رولان بارت في نصّه الشهير: رولان بارت بقلم رولان بارت.
يمكن أن نستخلص من أشغال هذه الجامعة التي احتضنتها كلية اللغة العربية بمراكش، وعرفت نجاحًا كبيرًا، نقطتين: أولاهما أنها وفرت فرصة جيدة للنقاش بين الباحثين والمهتمين من جامعات ومؤسسات بحثية مختلفة، من المغرب والعالم العربي ومن أوروبا وأميركا، وهو ما سيسهم بالتأكيد في التأسيس لمنطلقات جديدة، أكان ذلك على صعيد العلاقات بين الباحثين أو على صعيد الاهتمام بالترجمة وتعميق دورها المحوري في الحوار والتفاعل بين الثقافات المختلفة. أما النقطة الثانية، فتتمثل في كون الترجمة تشكّل اليوم أحد المواقع الأساسية التي تلتقي فيها كثير من الاهتمامات والتخصصات، كما أنها تثير العديد من القضايا التاريخية والثقافية والفلسفية واللغوية، وأن التفكير فيها، انطلاقًا من مونتين وهو كاتب كلاسيكي يتمتع بالسطوة والغلبة شأن كلّ مؤلف كلاسيكي، سواء في المرحلة التي عاش فيها حيث الاستيرادات الأدبية والفكرية كانت تتمّ بدءا من اللاتينية واليونانية، أو بعد وفاته، أو الآن، بعد هذه المسافة الطويلة التي تفصلنا عن العصر الذي عاش فيه، من شأنه أن يحمل شيئًا جديدًا ليس لعمل مونتين وحسب، وإنما أيضًا للقارئ المعاصر الذي يستطيع أن يتحصّل على أكبر منفعة إذا قرأ هذا الكتاب بتبادل حاذق كما يشدّد على ذلك إيتالو كالفينو في كتابه: "لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟".